تشهد لبنان منذ الأحد الماضي موجات من الحرائق التي اجتاحت العديد من المناطق من شمال البلاد إلى جنوبها. وعلى الرغم من نجاح قوات الأمن والدفاع الوطني اللبناني في إخماد 80 بالمائة من تلك الحرائق الطبيعية، فإن الحرائق السياسية التي تسببت فيها قد يكون من الصعب إخمادها.
أسباب اندلاع الحرائق:
تباينت رؤى المسئولين الحكوميين وكذلك الخبراء والمحللين، لأسباب اندلاع الحرائق التي طالت أجزاء كبيرة من غابات لبنان، ويمكن استعراض أبرز هذه الأسباب على النحو التالي:
1- التغيرات المناخية: يفسر العديد من المسئولين والخبراء اندلاع الحرائق بظاهرة التغيرات المناخية؛ إذ تشهد لبنان هذه الأيام موجة شديدة الحرارة، حيث وصلت درجات الحرارة في بعض المناطق إلى 40 درجة مئوية، وهذا الارتفاع في درجات الحرارة تصاحبه رياح موسمية جافة، وهو ما تسبب في انتشار الحرائق بسرعة شديدة وبحجم غير مسبوق. هذا بالإضافة إلى بعض العوائق الناتجة عن وجود حقل ألغام في بعض المناطق، وكذلك بعض خطوط الكهرباء التي منعت طوافات الجيش اللبناني من العمل بسهولة. كما انتشرت النيران بسرعة كبيرة بسبب التضاريس الجغرافية للمنطقة المعروفة بوعورتها.
وفي هذا الإطار، أوضحت منظمة "السلام الأخضر" أن ارتفاع درجات الحرارة ساهم في جفاف التربة وإيجاد الظروف الملائمة لنشوب حرائق غير مسبوقة، كما لعبت الرياح دورًا كبيرًا في اتساع رقعة الحرائق. وناشدت المنظمة البيئية غير الحكومية، حكومة لبنان، إعلان حالة "طوارئ مناخية"، ووضع وتنفيذ استراتيجية وطنية للتكيف مع آثار تغير المناخ والتصدي لحوادث متطرفة مماثلة.
وظاهرة حرائق الغابات ليست غريبة على لبنان، حيث من المعتاد أن تتعرض لحرائق الغابات، وقد وقع أخطرها وأشدها تأثيرًا خلال عامي 2007 و2009. أما الحرائق التي تشهدها لبنان هذه الأيام فقد تجاوز عددها أكثر من مائة حريق بحسب هيئة الدفاع اللبناني، وامتدت لبعض المناطق السكنية والقرى، كما تضررت بعض المدارس والجامعات القريبة منها.
2- التقصير الحكومي: بالرغم من أن التغيرات المناخية التي تشهدها لبنان تُعد من العوامل الرئيسية المسئولة عن اندلاع الحرائق التي تشهدها البلاد؛ إلا أن البعض وجه أصابع الاتهام إلى الحكومة، وحمّلها المسئولية عن تفاقم التأثيرات الخطيرة لتلك الحرائق، وصعوبة السيطرة عليها، وهو ما دفع الحكومة لطلب المساعدة من بعض دول الجوار. وقد شاركت ثلاث دول بالفعل في جهود السيطرة على الحرائق، وهي: قبرص، اليونان، الأردن، بالإضافة إلى مشاركة رجال إطفال تابعين لقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل).
وتأتي هذه الانتقادات في ظل تحذير العديد من المنظمات المعنية بالبيئة -مسبقًا- من احتمال وقوع تلك الحرائق، دون أن تتخذ الحكومة الإجراءات المناسبة للاستعداد لها، وهو الأمر الذي دفع البعض إلى التذكير بطوافات سيكورسكي التي اشترتها لبنان منذ عدة سنوات للاستعانة بها في إطفاء الحرائق، لكنها لم تستخدمها بسبب عدم القيام بصيانتها، رغم أن البعض قدر تكلفة ذلك، بأقل من نصف مليون دولار سنويًّا.
وانتقد البعض أولويات الحكومة، مشيرين إلى إنفاقها أموالًا طائلة لتشييد "سد بسري" الذي يعارضه الكثيرون ومن بينهم سياسيون ونشطاء بيئيون. وفي السياق ذاته، أشار البعض إلى قضية متطوعي الدفاع المدني، الذين طالبوا في عدد من اللقاءات مع مسئولين ومن خلال اعتصامات في بيروت بتثبيتهم ومنحهم حقوقهم الأساسية ليستمروا في تقديم خدماتهم، غير أن عدم توافر الموارد المالية الكافية حال دون تحقيق ذلك. كما أشار البعض إلى نقص عدد سيارات الإطفاء الكبيرة المخصصة للحرائق التي تندلع في المدن، بالإضافة إلى أنها غير مجهزة بشكل كافٍ للتعامل مع حرائق الأحراج.
3- أطراف غير معروفة: انتشرت الشائعات في لبنان حول احتمال وجود أصابع خفية مسئولة عن اندلاع هذه الحرائق، لأنه بحسب تقارير الدفاع المدني هناك حرائق اندلعت عند الساعة الواحدة فجرًا، وفي هذا الوقت لا تكون الشمس هي التي أشعلتها. وبناءً على ذلك، طلب رئيس الجمهورية "ميشال عون"، فتح تحقيق في الأسباب التي أدت إلى توقف طائرات سيكورسكي -المسئولة عن الإنقاذ وإطفاء الحرائق- عن العمل منذ عدة سنوات، مع ضرورة تحديد المسئولين عن ذلك.
وتأكيدًا على وجود شكوك بأن الحرائق مفتعلة، توعَّد رئيس الحكومة "سعد الحريري" بأنه إذا "كان الحريق مفتعلًا، فهناك من سيدفع الثمن". وأكّد "الحريري" في مؤتمر صحفي عقب انتهاء اجتماع لجنة إدارة الكوارث بمقر الحكومة في بيروت، ضرورة فتح تحقيق في ملابسات الحرائق وأسبابها. وفي هذا الإطار، طالبت أجهزة الدولة المختلفة، جميع المواطنين بعدم الانسياق وراء الشائعات، وانتظار نتائج التحقيقات لمعرفة المسئول عن تلك الحرائق.
4- أسباب بشرية: يُرجع البعض أسباب حدوث حرائق الغابات في لبنان إلى أسباب بشرية، مع قيام المزارعين بتنظيف الأراضي عبر إضرام النيران في الأعشاب اليابسة التي نمت بفعل هطول الأمطار خلال الشتاء الماضي، بالإضافة إلى إضرام النيران في مكبات النفايات العشوائية الموجودة بالقرب من المناطق الحرجية أو داخلها. علاوةً على الأنشطة التي تُقام في الغابات من قِبَل المخيمات، والتي تؤدي إلى افتعال الحرائق، وكذلك إهمال صيانة الغابات.
التداعيات المحتملة:
يُمكن أن يكون للحرائق التي تشهدها لبنان، مجموعة من التداعيات التي لا تُطال فقط البيئة، ولكن أيضًا الوضع الاقتصادي والسياسي للبلاد، وذلك كما يتضح فيما يلي:
1- تقليص مساحة الغابات: تسببت الحرائق في خسائر لبنان مساحات شاسعة من الغابات، كما أنها قضت على آلاف الأشجار المعمرة، التي يصعب تعويضها. وفي هذا الإطار، كشف الدكتور "جورج متري"، مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في جامعة البلمند، عن أن لبنان فقد ما لا يقل عن 1200 هكتار (2965 فدانًا) خلال ثلاثة أيام فقط، مشيرًا إلى أنه قبل اندلاع الحرائق الأخيرة، كان لبنان قد فقد بالفعل ثلاثة ملايين شجرة في عام 2019 وحده نتيجة حرائق الغابات، أي ما يُعادل جميع الأشجار المزروعة في مبادرات إعادة التحريج خلال الـ15 سنة الماضية. وبالنظر إلى الرقم القياسي الجديد في مساحة المناطق وعدد الأشجار المحروقة، فإن ذلك يُمثل كارثة حقيقية على التنوع البيولوجي في لبنان.
وفي هذا الإطار، تُحذر العديد من المنظمات البيئية من مخاطر تقلص مساحات الغابات في لبنان، التي تواجه تراجعًا متسارعًا في مساحة الغابات والمناطق الخضراء. وتُشير إحصائيات "جمعية الثروة الحرجية والتنمية" اللبنانية، إلى أن الغطاء الحرجي في لبنان، تقلّص بشكل مخيف، منذ ستينيات القرن الماضي حتى الآن، حيث تقدّر المساحة الإجمالية للغابات في لبنان، بحوالى 13 بالمائة، بعد أن كانت تشكّل أكثر من 30 بالمائة في عام 1960. وتتزايد التحذيرات من احتمال استمرار موسم الحرائق في لبنان، الذي من المرجح أن يستمر حتى نهاية شهر ديسمبر القادم، بعدما كان يبدأ في يوليو ويستمر حتى أكتوبر، وهو ما قد يؤدي إلى مزيدٍ من الخسائر في الغابات.
2- تفاقم الأزمة الاقتصادية: لم تُسجّل خسائر بشرية جراء الحرائق، حتى الآن، باستثناء حالة واحدة لعنصر من الدفاع المدني تعرّض لسكتة قلبية أثناء محاولته إطفاء أحد الحرائق، غير أن تلك الحرائق خلفت أضرارًا مادية. وبالرغم من أنه لم يُحدد بعد، على وجه الدقة، حجم هذه الأضرار، إلا أنها يُمكن أن تُسهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تمس المواطن اللبناني، خاصة أن الحرائق طالت منطقة الشوف، وهي منطقة بيئية وسياحية مهمة، يأتي إليها السياح من كل العالم، وبالتالي خسارتها سوف تؤثر على السياحة البيئية في هذه المنطقة، وبالتالي على لبنان بشكل عام.
إضافةً إلى أن الخسائر الاقتصادية المترتبة على حرائق الغابات، يمكن أن تُضيف أبعادًا جديدة إلى قائمة المشاكل التي يعاني منها الشعب اللبناني جراء الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والتي تسببت في اتساع نطاق الإضرابات على مختلف الأصعدة، وهو ما يصاحبه فشل الحكومة في إقرار الموازنة العامة لعام 2020. إلى جانب التقارير التي تحذر من احتمال تدهور قيمة العملة المحلية، مع انخفاض حجم المعروض من الدولار في السوق وإصدار الوكالات العالمية للتصنيف الائتماني مراجعات سلبية لديون لبنان السيادية.
3- توظيف الحرائق سياسيًا في الداخل والخارج: تسعى بعض القوى السياسية المعارضة للحكومة اللبنانية إلى توظيف تلك الحرائق من أجل إثبات عجزها عن التصدي للأزمات الحياتية التي تواجه المواطنين. وفي هذا الإطار، أكد رئيس حزب الكتائب اللبنانية، النائب "سامي الجميل"، أن "لبنان يحترق اليوم بينما الدولة على تقصيرها المزمن، لا تتحرك استباقًا لكارثة طبيعية وإنسانية وبيئية، وإن تحركت فبعد فوات الأوان". وطالب بيانٌ صادر عن حزب الكتائب في 15 أكتوبر الجاري "الحكومة بالاستقالة، وإفساح المجال أمام حكومة جديدة قادرة على العمل والإنتاج على أسس وطنية وإدارية ومالية شفافة".
وفي الوقت ذاته، قال حزب الخضر اللبناني في بيان له: "إن الحرائق المندلعة على نطاق واسع، والتي يشهدها لبنان، تطرح الكثير من التساؤلات، ومنها: هل من المعقول أن يبقى عناصر الدفاع المدني يواجهون الحرائق بتجهيزات محدودة؟ وهل من الجائز والمعقول أن تبقى الطائرات الثلاث التي تم شراؤها بتبرعات ومساهمات من الشعب اللبناني خارج الخدمة لعدم توفر المال من أجل صيانتها، ونلجأ عند كل حريق كبير خارج عن السيطرة إلى استئجار طائرات للمكافحة؟".
وفي الإطار ذاته، عملت إسرائيل على استغلال الحرائق، حيث كشف وزير الدفاع اللبناني "إلياس بو صعب" النقاب عن قيام إسرائيل باستغلال انشغال لبنان بالحرائق، وبدأت في بناء حائط إسمنتي في منطقة متنازع عليها في الوزاني. ووصف وزير الدفاع اللبناني هذا العمل بـ"الخطير" و"الاستفزازي"، لافتًا إلى أنه "سيتواصل مع رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، لتقديم شكوى جدية بخصوص هذا الموضوع".
4- تعزيز التضامن الشعبي: أكدت الحرائق التي طالت لبنان، أصالة ووحدة الشعب بمختلف طوائفه، بالرغم من وجود بعض الأصوات التي خرجت عن السياق العام، وسعت إلى توظيف الحرائق طائفيًّا، والتي كان من بينها، النائب "ماريو عون"، الذي تساءل عن السبب الذي جعل الحرائق تقتصر على المناطق المسيحية"، على حد تعبيره، بالرغم من أنها امتدت، في الواقع، إلى مناطق مختلفة في لبنان.
رغم ذلك، يكشف الاتجاه العام عن تلاحم مختلف فئات الشعب اللبناني الذي تكاتف معًا لمواجهة هذه الكارثة الطبيعية، حيث تطوع مئات الشباب للمشاركة في جهود إطفاء الحرائق لمنع تمددها واتساع نطاقها، كما انطلقت حملات التبرع بالمال لمساعدة الأسر التي تضررت من الحرائق، بالإضافة إلى ذلك فتحت العديد من الأسر أبوابها أمام العائلات المنكوبة التي نزحت جراء الحرائق، ووفرت لها المأوى. كما تداول البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، صورًا لسوريين وفلسطينيين يساعدون في إخماد الحرائق، هذا بالإضافة إلى مساهمة الدفاع المدني الفلسطيني بالمخيمات في إطفاء الحرائق، وهو ما قد يُمثل فرصة لتوحيد صفوف الشعب اللبناني.